في كثير من الأحيان، نضع أهدافًا ثم ننسى الطريق المؤدي إليه، نخلط بينها وبين المهام، أو نحاول التحرك في كل الاتجاهات دفعة واحدة، فننتهي بالوصول إلى لا شيء! وسط هذه الفوضى، ظهر نظام الـ OKRs كإطار عملي يمكنه أن يعيد ترتيب هذه الفوضى، ويمنحنا وضوحًا حقيقيًا في العمل، أو حتى في حياتنا الشخصية.
ما هي الـ OKRs
الـ OKRs هي اختصار لـ "Objectives and Key Results"، أو بالعربي "الأهداف والنتائج الرئيسية". الفكرة بسيطة جدًا: نحدد هدفًا واضحًا نريد تحقيقه، ثم نضع 3 إلى 5 نتائج رئيسية يمكن قياسها، وإذا تحققت جميعها فهذا يعني أننا قد حققنا الهدف المطلوب. بمعنى آخر، الهدف (Objective) هو ما نريد إنجازه. يجب أن يكون الهدف محددًا، طموحًا، وملهمًا. أما النتائج الرئيسية (Key Results)، فهي الطريقة التي نعرف بها أننا قد وصلنا للهدف.
أصل الـ OKRs
لم تظهر الـ OKRs فجأة، بل لها جذور تعود إلى السبعينيات، حين طوّرها Andrew (Andy) Grove أثناء عمله في شركة Intel. أراد Grove نظامًا إداريًا للأهداف يساعد على تحقيق ثلاثة أمور: التركيز، الشفافية، والمساءلة، فابتكر إطارًا يربط بين أهداف ملهمة وواضحة من جهة، ونتائج قابلة للقياس من جهة أخرى. والغاية؟ أن تتوقف الفِرق عن الانشغال بالمجهود المجرد، وأن تبدأ في التركيز على ما يُحدِث فرقًا فعليًا.
اعتمد Grove في نظامه على نهج إداري سابق وهو الإدارة بالأهداف (Management by Objectives أو MBOs)، والذي طرحه Peter Drucker، "أب الإدارة الحديثة"، في الخمسينيات، لكن Grove أضاف إليه أبعادًا جديدة:
- القياس الصارم للنتائج
- والابتعاد عن تقييم الأشخاص حسب مناصبهم أو حجم المهام التي يؤدونها
وثّق Grove نظامه في كتابه الشهير High Output Management، الصادر عام 1983، واستخدمه لقيادة تحول Intel إلى واحدة من أقوى شركات التكنولوجيا في العالم.
لكن القصة لم تتوقف هناك، ففي منتصف السبعينيات، كان هناك شاب يُدعى John Doer، يعمل في Intel، وتعلم الـ OKRs مباشرة من Grove، حيث كانت تُعرف حينها باسم "iMBOs". وبعد سنوات، وتحديدًا في 1999، أخذ Doer هذا الإطار الإداري وقدّمه إلى شركة ناشئة -آنذاك- تُدعى Google. ولم تمضِ فترة طويلة حتى أصبحت الـ OKRs جزءًا مركزيًا من ثقافة Google، وساهمت في توجيه الفِرق نحو أهداف طموحة، قابلة للقياس، ومترابطة على مستوى المؤسسة كلها.
لاحقًا، قام John Doer بتوثيق هذه التجربة الثرية في كتابه Measure What Matters، بالعربي: "قِس ما هو مهم"، الصادر سنة 2018، وهو الكتاب الذي تُلخّص هذه التدوينة أهم محتوياته.
الفرق بين الـ OKRs والـ KPIs
في البداية، الكثير يخلطون بين الـ OKRs والـ KPIs، أي مؤشرات الأداء الرئيسية (Key Performance Indicators)، لذلك نود توضيح الفرق الآن. الفرق الجوهري هو أن الـ KPIs تقيس الأداء الجاري، أي العمل كالمعتاد (Business As Usual)، من ناحية أخرى، الـ OKRs تركز على التغيير والتحول، أي أن الـ OKRs ليست لتتبع ما نقوم به بشكل معتاد، بل لتوجيهنا نحو ما يجب تغييره كما سنوضح في هذه التدوينة.
فوائد الـ OKRs
- الوضوح: في منظمات كثيرة، الاستراتيجية موجودة، ولكن لا أحد يعرف كيف تتحول إلى أفعال. كل فريق يعمل بطريقته، والنتيجة هي مشاريع كثيرة بلا بوصلة واحدة. الـ OKRs تربط بين الاستراتيجية (Strategy) والتنفيذ (Execution)، وتساعد الفِرق على التوحد خلف تعريف مشترك للنجاح.
- التركيز: من بين عشرات الأولويات، تدفعك الـ OKRs لاختيار ما هو أكثر أهمية الآن، وهذا وحده كافٍ ليحدث فرقًا.
- الالتزام الجماعي: عندما تُكتَب الأهداف علنًا، ويتشارك الفريق مسؤولية تحقيقها، فإن الحوار يتغير من "ما هي أهدافي؟" إلى "ما الذي اتفقنا على إنجازه سويًا؟"
كيف تكتب الـ OKRs بشكل فعّال (مع مثال)
الهدف الجيد ليس عامًا أو مبهماً، فلا يكفي أن نقول: "نريد أن نكون الأفضل" أو "نريد تحسين الأداء". بل يجب أن يكون محددًا بما فيه الكفاية لتوجيه الأفعال، وطموحًا بما فيه الكفاية ليُلهم الفريق.
مثلًا، الهدف (Objective) يمكن أن يكون: الوصول إلى مستوى أعلى من اللياقة البدنية بنهاية هذا السنة.
أما النتائج الرئيسية، فيجب أن تكون قابلة للقياس بشكل واضح. كل هدف يندرج تحته 3 إلى 5 نتائج رئيسية.
يُمكن أن تكون النتائج الرئيسية مزيجًا من الأنواع التالية:
• المدخلات (Inputs): ما يمكننا التحكم فيه مباشرة، مثل عدد الحملات التي ننفذها.
• المخرجات (Outputs): ما ننتجه كنتيجة مباشرة لأعمالنا.
• النتائج (Outcomes): ما تغيّر في الواقع بسبب ما قمنا به.
كلما أمكن، ركّز على النتائج (Outcomes). فهي ما يهم فعلاً.
مثلًا، النتائج الرئيسية (Key Results) للهدف المذكور سابقًا:- نتيجة رئيسية من نوع "مدخلات": الالتزام بممارسة الرياضة لمدة 45 دقيقة على الأقل، يوميًا، حتي نهاية السنة.
- نتيجة رئيسية من نوع "مخرجات": إتمام 50 جلسة تمرين كحد أدنى خلال هذه السنة.
- نتيجة رئيسية من نوع "نتائج": انخفاض الوزن بمقدار 6 كغ على الأقل هذه السنة.
- نتيجة رئيسية من نوع "نتائج": انخفاض نسبة الدهون في الجسم إلى أقل من 20% هذه السنة.
- نتيجة رئيسية من نوع "نتائج": القدرة على الجري لمسافة 5 كلم في أقل من 30 دقيقة هذه السنة.
الـ OKRs ليست للمؤسسات فقط
كما رأينا من الأمثلة، الـ OKRs ليست للمؤسسات فقط، بل يمكن للأشخاص أن يستخدموا الـ OKRs. على سبيل المثال، إن كنت تريد تعلم مهارة جديدة، أو تغيير عاداتك اليومية، أو حتى الاستعداد لماراثون، يمكنك كتابة OKR لنفسك، والنتائج تكون مرئية وقابلة للتتبع، مما يخلق التزامًا ذاتيًا ويزيد من احتمالية تحقيق لهذا الهدف.
هل يجب أن تحقق كل OKR بنسبة 100٪؟
هناك نوعان من الـ OKRs: التزامية (Committed) وطموحة (Aspirational). الأولى نتوقع تحقيقها بالكامل، أي يجب أن تتحقق بنسبة 100٪، أما الثانية فهي تُكتب لتحدي الفريق ودفعه لتجربة أفكار جديدة، حتى لو لم تتحقق بالكامل. المهم أن نفرّق بينهما منذ البداية، ونعرف كيف نقيس النجاح في كل حالة.
كيف تتابع التقدم وتُدير دورة الـ OKRs
لا تنتهي فعالية الـ OKRs بمجرد كتابتها، بل إن نجاحها الحقيقي يعتمد على طريقة المتابعة خلال دورة الـ OKR (أو الـ OKR cycle). الحديث هنا ليس عن تتبع المهام، بل عن تتبع النتائج وتأثير الأفعال.
يُفضّل أن تُقسَّم السنة إلى دورات قصيرة، عادةً كل ثلاثة أشهر. هذا الإيقاع (Cadence) يساعد الفِرق على التركيز، ويمنحهم فرصة للتعلّم، والتعديل في الخطط، وإعادة التوجيه إذا لزم الأمر. بداية كل دورة تُحدَّد الأولويات، وفي نهايتها تُراجع النتائج.
خلال دورة الـ OKR، يُنصح بالاجتماع بشكل دوري—ربما كل أسبوعين أو ثلاثة—لطرح أسئلة بسيطة لكنها جوهرية:
• ما الذي أنجزناه فعليًا؟
• هل هناك هدف/ نتيجة متأخرة أو مهددة؟
• هل نحن على الطريق الصحيح لتحقيق الهدف؟
• هل يجب أن نعيد النظر في بعض الجهود المبذولة؟
هذه الاجتماعات ليست لمجرد تقديم تقارير شكلية، بل للنقاش الحقيقي، لتبادل الملاحظات، ولاتخاذ قرارات جماعية، وفي نهاية كل دورة (Cycle)، تُقيَّم الـ OKRs بصدق، لا لمحاسبة الأفراد، بل للتعلّم. الفِرق الناجحة تعرف أن الفشل في تحقيق بعض النتائج لا يعني الفشل الكامل، بل يعني أن الوقت قد حان لمراجعة الافتراضات، وتعديل المسار، وربما اختيار أهداف أكثر واقعية أو أكثر تأثيرًا في الدورة التالية.
كذلك، من الأفضل أن تكون الـ OKRs شفافة (Transparent)، فعندما تكون الـ OKRs مرئية للجميع، تُصبح أداة للتعاون لا للمنافسة، وتمكِن الفرق المختلفة على فهم ما يعمل عليه الآخرون، وتُقلل من تكرار الجهود أو تضاربها.
في بعض المؤسسات، يتم تعيين "راعي للـ OKRs" (أو كما يسمّى أحيانًا "Shepherd") داخل كل فريق. هذا الشخص لا يضع الأهداف بدلًا عن الفريق، بل يضمن أن دورة الـ OKRs تسير كما يجب:
- أي أن الاجتماعات الدورية تنعقد في موعدها
- وأن كل التحديثات تُسجَّل
- وأن الجميع يبقى على اتصال بالأهداف المشتركة