أي مسار مهني أفضل: التخصص أم التوسع؟
هل تشعر أحيانًا أن مسارك المهني يبدو متقطعًا أو غير مترابط؟ هل تحتار بين أن تكون متخصصًا بعمق في مجال واحد أم تبني خبرات متنوعة عبر مجالات مختلفة؟ في هذا المقال أشارك تجربتي بالإضافة إلى نتائج بحث نوعي مع شركات ليبية، حول نظرة أصحاب العمل للمسارات المهنية المختلفة.
جدول المحتويات
عندما أتأمل في الأدوار المختلفة التي لعبتها في مسيرتي المهنية، أتساءل عما إن كانت مسيرتي منطقية. في بعض اللحظات، مررت بأزمة هوية مهنية وصعوبات في جعل ملفي الشخصي على موقع LinkedIn يبدو متسلسلًا ومترابطًا. كثيرًا ما تساءلت: كيف تراني الشركات وأرباب العمل: هل يرونني كشخص لا يستطيع اختيار مسار وظيفي واحد، أم يرون قيمة في تنوع الأدوار والمهارات التي طورتها في المسارات المختلفة التي سلكتها؟ هذا دفعني للتفكر في مسيرتي المهنية وجعلني أدرك أنني لست وحيدًا. فكثير من الأشخاص يصارعون نفس المعضلة، خاصة في المراحل المبكرة أو المتوسطة من مسيرتهم المهنية: هل يجب أن أتخصص وأتعمق في مجال واحد، أم يجب أن أُنوع وأتمكن مهارات متعددة؟ بعض الناس لا يملكون حتى رفاهية الاختيار ويجدون أنفسهم مضطرين لمواجهة عواقب الخيارات التي أُتيحت لهم أو فُرضت عليهم. ما يلي هو محاولتي لتفكيك هذا السؤال لنفسي، وربما للقارئ أيضًا.
ملاحظة: النصوص الموجودة داخل الصناديق البرتقالية هي قراءة اختيارية تقدم أمثلة حقيقية من مسيرتي المهنية.
الفرق بين المتخصصين واللامتخصصين
المتخصص (Specialist) هو خبير في مجال معين. عادةً ما يخضع المتخصصون لتدريب إضافي أو تعليم عالي (ماجستير، دكتوراة) لاكتساب خبرة عميقة، وغالبًا ما يتم الاستعانة بهم لقيادة المشاريع أو تقديم المعرفة المركزة (المصدر: indeed.com). يُشار إلى هذا المسار المهني بـ ”I-shape“، أو الخطي (Linear)، أو العمودي (Vertical).
مثال: كانت أول وظيفة لي في قطاع النفط والغاز كمتخصص في البيانات. مسؤولياتي كانت تحليل البيانات ومعالجتها وتفسيرها. حتى نشاطاتي الجانبية داخل الشركة كانت متعلقة بالبيانات، حيث قُدت فريق الجودة لعام كامل وكانت تركيزي على ناحية أمن البيانات (Data Security).
من ناحية أخرى، اللامتخصص (Generalist) هو أيضًا محترف يمتلك معرفة ومهارات أوسع عبر مجالات متعددة، ولكنها أضحل بكثير من معرفة ومهارات الشخص المتخصص. غالبًا ما يشارك اللامتخصص في مجموعة متنوعة من المهام عبر أقسام مختلفة (المصدر: indeed.com).
مثال: في أواخر 2014، مر قطاع النفط والغاز في ليبيا بتراجع كبير، مما أدى إلى تسريح عدد كبير من الموظفين في شركتنا، وأنا كنت من بينهم. كانت وظيفتي متخصصة جدًا، مع طلب محدود جدًا عليها، ووجود عدد قليل من المهنيين الذي يمارسونها في ليبيا وحتى على مستوى العالم. ومع ذلك، استخدمت خبرتي التقنية لتقديم برامج تدريبية بشكل مستقل (Freelance)، ونجحت في الوصول إلى الأفراد والشركات، بالإضافة لانضمامي كعضو هيئة تدريس متعاون في مؤسسة تعليم عالٍ. فتحت لي هذه التجارب الباب لوظيفة في شركة تدريب واستشارات، جديدة حينها، حيث كنت أول موظف لديهم كمنسق برامج تدريبية، لكنني في نفس الوقت توليت مجموعة واسعة من المهام الإضافية، بما في ذلك إدارة وسائل التواصل الاجتماعي، كتابة العروض الفنية والمالية، تطوير محتوى الدورات، تقديم التدريب، إدارة الموقع الإلكتروني للشركة، بالإضافة إلى العمل كمحلل إداري للمشاريع الاستشارية. بمعنى آخر، أصبحت في هذه المرحلة لامتخصص، أرتدي العديد من القبعات.
نقاط قوة وتحديات كل نهج
المتخصصون غالبًا ما يتقدمون بسرعة لأن مسارهم المهني خطي وواضح، وسيرتهم الذاتية وخبرتهم سهلة الفهم لأرباب العمل. لكن هناك جانب سلبي: إذا مر مجالهم بأزمة أو أصبحت مهاراتهم قديمة، فقد يجدون أنفسهم عالقين. بالإضافة إلى ذلك، قد تصبح مهامهم متكررة جدًا، وتغيير المجال لاحقًا نادرًا ما يكون سهلاً. بعض المتخصصين يركزون على مهارة واحدة لدرجة أنهم قد يتحولون إلى ”One-trick pony“.
من ناحية أخرى، اللامتخصصون قد تكون بداياتهم أصعب، لأنهم غالبًا ما يحتاجون إلى وقت أطول لبناء المهارات والمصداقية في كل دور جديد يلعبونه. قد يصنفهم البعض بأنهم ”Jack of all trades“ أو ”Master of none“، والتنقلات المتكررة بين الأدوار قد تثير الشكوك وتجعل سيرتهم الذاتية صعبة للفهم. ومع ذلك، مع مرور الوقت، تجعلهم قابليتهم للتكيف، ورؤيتهم الأوسع، وقدرتهم على ربط الوظائف المختلفة أكثر تأهيلاً للأدوار القيادية وريادة الأعمال (Entrepreneurship).
يجب علينا أيضًا مراعاة تأثير الذكاء الاصطناعي والأتمتة على كل نهج. فالوظائف المتخصصة جدًا التي تعتمد على مهام متكررة أو قائمة على القواعد (Rule-based tasks) أكثر عرضة للأتمتة. بالمقابل، الأدوار المتنوعة غالبًا ما تشمل حل المشكلات، والتكيف، والعمل التشاركي بين الوحدات أو الأقسام المختلفة، وهي بالتالي أصعب للاستبدال بالأتمتة. وعلى الرغم من أن اللامتخصصين ليسوا محصنين ضد الأتمتة، إلا أنه يمكننا القول أن العمق التخصصي (Depth) بدون القدرة على التكيف يحمل مخاطر أكبر في عالم يقوده الذكاء الاصطناعي.
أنا لا أقول أن أحد النهجين أفضل أو أسوأ من الآخر، فقد شهدت قصص نجاح لزملاء وأصدقاء في كلا النهجين. الشركات أيضًا بحاجة إلى كليهما، المتخصصين واللامتخصصين، لتشغيل عملياتها بنجاح. ومع ذلك، أعتقد أن هناك نهجًا هجينًا قد يكون أكثر فعالية.
الحل الهجين: المسار المهني على شكل حرف T
قبل بضع سنوات، صادفت فكرة نالت إعجابي: المسار المهني على شكل حرف T (أو بالإنجليزية ”T-shaped Career“)، والذي يقترح أنه بدلاً من الاختيار بين التخصص أو التنويع، يمكنك أن تبني كليهما معًا، تدريجيًا، كحرف T، بحيث يكون الخط العمودي في حرف T هو خبرتك المتعمقة في مجال أساسي واحد، بينما يكون الخط الأفقي في حرف T هو قدرتك على التوسع إلى مجالات أخرى.
قمت بالبحث عن أصل مصطلح ”T-shape“، وهذا ما وصلت إليه:
- في الثمانينيات، استخدمت شركة الاستشارات العالمية McKinsey مصطلح ”T-shaped man“ داخليًا لوصف المرشحين المثاليين الذين يجمعون بين الخبرة العميقة في مجال معين والقدرة على التعاون مع التخصصات الأخرى.
- في 1991، قدم الأكاديمي، بروفيسور David Guest مفهوم مهارات الـ T-shaped رسميًا، معرفًا الجزء العمودي من حرف T كمعرفة متخصصة في مجال معين، والجزء الأفقي من حرف T كمهارات أوسع للتعاون بين التخصصات المختلفة.
- لاحقًا، اكتسبت الفكرة شعبية واسعة عندما روج لها Tim Brown، الرئيس التنفيذي لشركة IDEO، كإطار لبناء فرق متعددة التخصصات في مجال العمل الإبداعي.
مثال: لاحقًا في وظيفتي في مجال التدريب والاستشارات، ومع نمو الشركة، تمت ترقيتي بعد عدة سنوات من منسق تدريب إلى مدير الخدمات التعليمية. ورغم أن تركيزي الأساسي كان على قيادة الخدمات التعليمية، إلا أن العمل جذبني تدريجيًا إلى وظائف أخرى مثل الاستراتيجية، والتسويق، والمبيعات، والعمليات، وحتى المالية والموارد البشرية، وأصبحت في النهاية مدير التسويق والمبيعات. لم أخطط من البداية لتغطية كل هذه المساحة، لكن طبيعة العمل تطلبت أن أتوسع خارج وظيفة واحدة. هذا الجمع بين العمق (Depth) في مجال ما والتوسع (Breadth) في مجالات أخرى يعكس مثالًا كلاسيكيًا لمسار مهني بشكل T.
من المهم ملاحظة أن مسار T نادرًا ما يتشكل في بداية المسيرة المهنية. ففي البداية، معظم الناس ما زالوا يستكشفون ويجربون ويكتسبون خبرة كافية لتطوير العمق أو التوسع أو كليهما. ومع مرور الوقت، ومع تراكم المعرفة والمهارات، يبدأ المسار المهني بالتشكل بناءً على الخيارات التي اتخذها الشخص أو الخيارات التي كانت متاحة له، فبينما قد يركز البعض على تعميق الخبرة في مجال واحد، قد يتوسع البعض الآخر إلى مجالات متعددة، وقد يجمع آخرون بين الاثنين لتشكيل مسار T.
من المهم أيضًا ملاحظة أن تشكيل مسار T يتطلب التنقل، أي تجربة أدوار أو وظائف أو مشاريع مختلفة، أو حتى تغيير الشركات أو الانتقال بين الصناعات. بالنسبة للبعض الذين يعملون في بيئات ديناميكية أو قائمة على المشاريع، قد يحدث هذا بشكل تلقائي، بينما للبعض الآخر قد لا يقدم لهم مكانهم الحالي مجالًا كافيًا للتعلم وتوسيع المهارات، مما يجعل الانتقال خيارهم الوحيد. في المجالات سريعة التطور، مثل التكنولوجيا، قد يعني هذا قضاء فترة قصيرة نسبيًا في منصب ما ثم الانتقال لآخر، والذي قد يبدو في السيرة الذاتية كأنه تنقل وظيفي متكرر (Job hopping) والذي قد يُنظر إليه أحيانًا بشكل سلبي، إلا أنه -من ناحية أخرى- قد يعكس جهدًا مدروسًا للنمو، والتكيف، والتنويع.
كيف ينظر أرباب العمل لكل ذلك
بالطبع، السؤال الأهم هو: كيف يرى أرباب العمل كل هذا. أجريت بعض الأبحاث الأولية على الإنترنت وقارنتها بأبحاث أخرى متباينة لتقديم رؤية شاملة ومحايدة. بعد ذلك، شاركت النتائج الرئيسية مع مجموعة من الشركات الليبية للحصول على وجهة نظرهم.
نتائج الأبحاث الأولية على الإنترنت:
- الاهتمام بمسار T: الأشخاص الذين يجمعون بين خبرة عميقة في مجال واحد ومجموعة واسعة من المهارات العامة يحظون بتقدير متزايد، خاصة في بيئات العمل الديناميكية. ومع ذلك، اعتمادًا على نوع الوظيفة أو المجال، لا تزال بعض الوظائف تعطي الأولوية للتخصص العميق.
- علاقة نوع المسار المهني بالمجال: المجالات مثل الطب والقانون تُقدِّر التخصص طويل الأمد والتقدم المهني المستمر في نفس المجال، على الرغم من الاعتراف المتزايد بأهمية المهارات والتجارب المتنوعة. بالمقابل، تكافِئ المجالات سريعة التطور مثل التكنولوجيا التكيف وتنوع التجارب، ولكن بشرط نمو مهني مقصود.
- الخلاف حول التنقل الوظيفي المتكرر (Job hopping): تشير الأبحاث الأولية إلى أن التنقل المتكرر قد يعكس ضعفًا في الأخلاقيات المهنية أو انخفاضًا في الموثوقية، وقد يرتبط بأجور منخفضة في المراحل المبكرة من المسار المهني. ومع ذلك، في العديد من الصناعات اليوم، أصبح التنقل الوظيفي أكثر قبولًا، وأحيانًا يُنظر إليه كاستراتيجية لتطوير المهارات بسرعة وتوسيع شبكة المعارف الاحترافية.
- التنقل الوظيفي المعتدل vs. المتكرر: يميز أرباب العمل بين ”التنقل المعتدل“ و ”التنقل المتكرر غير المبرر“، فمدة قصيرة في وظيفة واحدة نادرًا ما تعتبر إشارة خطر (Red flag)، لكن التغييرات السريعة المتكررة قد تُفسر على أنها نقص في الالتزام أو نقص في القدرة على التكيف. ومع ذلك، ما يُعتبر ”متكررًا“ هو أمر نسبي؛ مثلًا، في الصناعات سريعة التطور مثل التكنولوجيا، قد يعتبر التنقل كل سنة أو سنتين أمرًا طبيعيًا.
- التنقل الوظيفي عند الأجيال الجديدة: غالبًا ما يُنظر إلى الأجيال الجديدة، خاصة الجيل Z وجيل الألفية (Millennials)، على أنهم يتبنون التنقل الوظيفي كوسيلة لتسريع حياتهم المهنية، واكتساب مهارات جديدة، وزيادة الدخل. ومع ذلك، تشير بعض الأدلة الأخرى إلى أن تنقلهم الوظيفي ليس مختلفًا جذريًا عن الأجيال السابقة في نفس المرحلة من حياتهم المهنية. ما تغير هو المنظور: التنقل الوظيفي قد يُنظر إليه اليوم كوسيلة للتنمية المهنية بدلًا من إشارة خطر.
- الاستقرار الوظيفي vs. المسار المهني الحديث: بينما يظل هناك اهتمام متزايد لدى الموظَّفين بالاستقرار والأمان الوظيفي، فإن توقع وجود وظيفة واحدة طوال الحياة قد اختفى إلى حد كبير. يتوقع الموظَّفون الحديثون، خاصة الأجيال الجديدة، تغييرات وظيفية متعددة خلال مسيرتهم المهنية. في المتوسط، يمكن للموظَّفين البقاء مع نفس الجهة حوالي 4 سنوات، رغم أن ذلك يختلف بشكل كبير حسب عمر الشخص والمجال، حيث يميل الموظَّفين الأكبر سنًا إلى البقاء لفترة أطول من نظرائهم الأصغر سنًا.
نتائج البحث النوعي في ليبيا
راودني الفضول عن كيفية انعكاس هذه النتائج على سوق العمل في ليبيا. للحصول على بعض الرؤى بالخصوص، قمتُ بإجراء بحث نوعي (Qualitative Research) على عينة من الشركات الليبية، معظمها شركات خاصة بمختلف الأحجام والقطاعات. وكانت نتائج هذا البحث على النحو التالي.
تنويه: هذا المسح النوعي شمل 13 شركة ليبية فقط، ولا يهدف لإنتاج نتائج قابلة للتعميم إحصائيًا، ولكنه يهدف إلى التقاط رؤى اتجاهية من مؤسسي الشركات (Founders)، والمدراء التنفيذيين (CEOs)، ومسؤولي التوظيف. النتائج أدناه تسلط الضوء على أنماط توفر سياقًا قيمًا لمزيد من الاستكشاف.
أولًا، بخصوص مسار T:
- هناك ميل واضح لدعم مسار T خصوصاً في بيئات العمل المرنة (Agile) والبيئات القائمة على المشاريع، حيث يرى مؤيدوه أنه يتيح التوازن بين التخصص العميق والمعرفة العامة الواسعة، مما يعزز القدرة على التعاون والتكيف.
- بعض المشاركين اعتبروا أن جدوى مسار T تعتمد على طبيعة الوظيفة أو حجم المؤسسة. أشار أحد المشاركين أن المؤسسات الصغيرة تحتاج موظفين متعددي المعارف والمهام، بينما المؤسسات الكبيرة تميل إلى التخصص، أي أن كل موظف فيها له مهام محددة يقوم بها.
- بعض المشاركين أشاروا إلى أن شكل المسار (سواء كان I، T، أو غيره) ليس معياراً مهمًا بالنسبة لهم، وأنهم يعطون الأولوية لقدرة الشخص على التعلم والتكيف.
ثانياً، بخصوص التنقل الوظيفي المتكرر (Job Hopping):
- تباينت آراء المشاركين بخصوص التنقل الوظيفي المتكرر بين من اعتبره سلوكاً سلبياً تماماً (خيانة لثقة المؤسسة، استنزاف للاستثمار في الموظف، إلخ)، وبين من رآه قابلًا للتبرير أو حتى إيجابياً بدافع تحسين الذات أو كمؤشر إيجابي لروح المخاطرة، حب التعلم والتجريب، وما إلى ذلك.
- مجموعة من المشاركين شددوا على ضرورة التحقق من أسباب التنقل الوظيفي قبل الحُكم على الشخص، معتبرين أن سرعة التنقل المتكرر ليس دائماً خطأ الموظف، بل قد يعكس قصوراً في الإدارة أو بيئة العمل التي قد يكون فيها معدل استقالات عالي.
- في المقابل، رأى بعضهم أن البقاء لفترات طويلة في نفس الوظيفة بنفس المهام هو على الأغلب مؤشر سلبي على الجمود المهني أو غياب الرغبة في تطوير الذات.
قمت أخيرًا بإجراء تحليل كمِّي للمحتوى (Quantitative Content Analysis) باستخدام الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) على المدخلات المقدمة من المشاركين، والتي تم تزويدي بها على شكل نصوص ورسائل صوتية، وحاولت تصنيف مدخلاتهم وإنتاج بعض النسب المئوية لتتمكنوا من الحصول على فكرة حول التوجهات العامة. النتائج كانت كالتالي:
بخصوص مسار T:
- ٪56 من المشاركين يدعمون مسار T
- ٪26 يرون أن جدوى مسار T تعتمد على السياق (نوع الوظيفة، حجم الشركة، إلخ)
- ٪18 لا يهتمون بمسار T، ويركزون على سمات أخرى (القدرة على التعلم والتكيف)
بخصوص التنقل الوظيفي المتكرر (Job hopping):
- ٪54 يرون أن التنقل الوظيفي المتكرر قد يكون له مبررات منطقية
- ٪23 يرون أن التنقل الوظيفي المتكرر سلوك سلبي ولا يمكن تبريره
- ٪15 يرون أن التنقل الوظيفي المتكرر قد يكون إيجابيًا أو حتى جديرًا بالثناء (بدافع تنويع المهارات، روح المخاطرة، حب التعلم، وما إلى ذلك)
- ٪8 لا يهتمون بالأمر على الإطلاق، ويركزون على سمات وإنجازات الشخص فقط
مع أن هذه البيانات محدودة ولا تكفي لبناء استنتاجات قاطعة، إلا أن النتائج مثيرة للاهتمام في السياق الليبي تحديدًا، حيث قد كنت أتوقع أن ترجح كفة الاستقرار والولاء المؤسسي على حساب المرونة والتجديد. غير أن هذه النتائج تكشف عن مساحة من الانفتاح؛ فوجود نسبة معتبرة من المشاركين الذين يرون قيمة في مسار T أو يتقبلون التنقل الوظيفي المتكرر كظاهرة ذات مبررات منطقية، قد يعكس بداية تحوّل تدريجي في العقلية الإدارية الليبية نحو مفاهيم أكثر حداثة ومرونة. ويبدو لي أن ذلك يرتبط ببروز جيل جديد من القادة والمديرين الليبيين الذين يسعون إلى الموائمة بين الثقافة المحلية ومتطلبات سوق العمل الحديث.
التوصيات
إن كنت في بداية مسيرتك المهنية، من المفيد لك بناء العمق (Depth) أولًا من خلال اختيار تخصص معين في مجال العمل. هذا سيمنحك أساسًا قويًا من الخبرة يمكنك الاستناد عليه. يمكن البقاء في مسار التخصص إن أردت الاستمرار في النمو المهني بشكل عمودي، غير أنّ عليك أن تكون واعيًا بتحديات هذا المسار والفرص المتاحة في السوق، مع وضع رؤية لأن تكون المرجع الأبرز في مجالك، والاستثمار المستمر في تعلمك وصقل مهاراتك لأن معايير التميز في المسار التخصصي تتطور باستمرار. من وجهة نظري الشخصية، لا أنصح أي شخص بأن يكون لامتخصصًا (Generalist)، فالإنسان الناجح يوجد دائمًا شيء ما يميّزه، ميزة فارقة أو مهارة متخصصة تكون مصدر قيمته.
أما إن كنت تطمح لأن تسلك مسار T، ابدأ —بعد التخصص— بتوسيع نطاقك: انخرط في مشاريع تُوسع قدراتك، غيِّر المجال إن كان لديك فضول بخصوص مجالات أخرى، أضف أدوارًا جانبية، سواء مدفوعة أو تطوعية، تُوسع مداركك، وخبراتك، وعلاقاتك الاحترافية. ومع مرور الوقت، يمكن لذلك المزج بين العمق (Depth) والتوسع (Breadth) أن يضعك بسلاسة على مسار T.
وأضيف هنا رأيًا شخصيًا آخر: حتى لو اخترت مسار T في مسيرتك المهنية، يمكنك دائمًا الرجوع مجددًا إلى التخصص البحت إذا تطلّب الأمر. إن ظهرت فرصة مهنية مناسبة تستدعي منك أن تكون متخصصًا، بإمكانك إعادة تشكيل هويتك المهنية لتناسب الفرصة الجديدة. مسار T ليس قيدًا دائمًا، بل خيار يمكنك التكيّف معه وفقًا للفرص المتاحة.
أخيرًا، إن كنت بالفعل في مرحلة الانتقال إلى مسار T، أفضل نصيحة يمكنني تقديمها هي ألا تخجل من مسيرتك. لا تُخفي التنقلات أو التغييرات التي مررت بها في مسيرتك المهنية، بل أبرزها واشرحها ووضوح: أظهِر كيف علَّمك كل انتقال شيئًا جديدًا أو أعدَّك لما سيأتي بعده. قد يتردد أرباب العمل في التعامل معك، لكنك إن ربطت لهم النقاط بوضوح من خلال حسابك في LinkedIn، سيرتك الذاتية، خطاب التقديم، والمقابلات، فلن يبدو مسارك مشتتًا لهم. السر هو في كيفية سردك لقصتك!
الخلاصة
- الكثير من الأشخاص يواجهون معضلة: هل يجب أن أتخصص وأتعمق في مجال واحد، أم أُنوع وأمتلك مهارات متعددة
- المتخصصون قد يتقدمون في مسيرتهم المهنية بشكل أسرع لأن مسارهم واضح لكنهم معرضون للجمود والأتمتة، بينما اللامتخصصون أكثر مرونة لكن مسيرتهم المهنية قد تكون أصعب للفهم بسبب تنوع أدوارهم أو وظائفهم.
- الحل الهجين هو المسار المهني على شكل T: عمق في مجال واحد مع توسع في مجالات أخرى، مما يزيد القدرة على التعاون والعمل التشاركي مع التخصصات أو الإدارات الأخرى.
- أبحاثي عبر الإنترنت ومع شركات ليبية أظهرت أن أرباب العمل يقدّرون القدرة على التكيف، ويرون في مسار T توازنًا مثاليًا بين العمق والمرونة.
- التنقل الوظيفي المعتدل والمبرر يُنظر إليه كوسيلة لتطوير المهارات بسرعة، بينما التنقل الوظيفي المتكرر غير المبرر قد يثير بعض الشكوك.
- في النهاية، المفتاح هو كيف تسرد قصتك المهنية بشكل واضح ومنطقي، وتوضيح كيف ساعدتك كل تجربة على النمو والتكيف، مما يجعل مسارك المهني أكثر إقناعًا لأرباب العمل.