الدماغ والتغيير: كيف تتأقلم وتزدهر في عالم دائم التغيير؟

من تغيرات السوق، إلى الطفرات التكنولوجية، إلى الحروب وتقلبات الحياة اليومية — أصبح التغيير (Change) هو القاعدة، وليس الاستثناء. ورغم أن بعضنا يرى فيه فرصة، يراه آخرون تهديدًا، وفي الحالتين، فإن ردة فعلك هي ما سيصنع الفارق. في هذه التدوينة، سنشرح ببساطة واختصار كيف يتعامل الدماغ البشري مع التغيير وسنرشدك لكيفية تحويل التغيير من عبء إلى دافع، ومن قلق إلى وعي، ومن ارتباك إلى قيادة!


على الأغلب قد سمعت عبارة "الثابت الوحيد في الحياة هو التغيير" من قبل، والتي تُستخدم كثيرًا لوصف وتيرة العالم السريعة. لكن هذه الفكرة ليست جديدة. الفيلسوف الإغريقي هيراقليطس (Heraclitus)، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، كان من أوائل من تحدثوا عنها، حيث قال: "لا يمكنك أن تخطو في نفس النهر مرتين"، في إشارة إلى أن كل شيء من حولنا يتغير باستمرار كمياه النهر. ومن بعده، جاء أفلاطون وأرسطو ليشدّدا على فكرة أن كل شيء يتدفق، و أنه لا شيء يبقى ساكنًا.

ومع مرور الزمن، أصبحنا نستخدم مصطلحات وأُطر حديثة لمحاولة فهم عالمنا دائم التغيير.
  • ظهر أولاً أطار VUCA في تسعينيات القرن الماضي، والذي يصف العالم بالتقلب (Volatility)، وعدم اليقين (Uncertainty)، والتعقيد (Complexity)، والغموض (Ambiguity)، وقد استخدم الجيش الأمريكي هذا الإطار لوصف عالم ما بعد الحرب الباردة الذي صار أقل استقرارًا وأكثر تعقيدًا.
  • ثم تطور المفهوم مع ظهور أطار BANI، والذي يعتبر أن العالم هش (Brittle)، قلق (Anxious)، غير خطي (Nonlinear)، وصعب الفهم (Incomprehensible)—ليصف هشاشة الأنظمة الحديثة والقلق البشري الجماعي الناتج عن تسارع الأحداث باستمرار.
  • وبعدها ظهر إطار TUNA، والذي يصف العالم بالمضطرب (Turbulent)، غير المؤكد (Uncertain)، الجديد (Novel)، والغامض (Ambiguous)، في محاولة لفهم التحديات المتزايدة التي جلبتها التكنولوجيا، مثل الذكاء الاصطناعي، والتحولات العالمية السريعة، وعدم وضوح المستقبل.
بغض النظر عن الإطار، فإن الرسالة واحدة: العالم يتغير باستمرار، وبوتيرة متسارعة!

تأقلُم الدماغ مع التغيير

كل مرة نواجه فيها تغييرًا، يُجبر دماغنا على التأقلم. هذه القدرة العظيمة تسمى اللدونة العصبية (Neuroplasticity)، وهي قدرة الدماغ على إعادة تنظيم نفسه وبناء روابط عصبية جديدة (Rewiring). فسواء كنت تتعلم مهارة جديدة، أو تتعافى من صدمة، أو تواجه بيئة عيش أو عمل جديدة—دماغك يُعيد تشكيل نفسه ليتأقلم. اللدونة العصبية -بفضل الله- هي السبب الرئيسي في بقاء الجنس البشري على قيد الحياة لآلاف السنين لأنها مكنته من التأقلم مع التغييرات التي مر بها عبر العصور.

لكن هذا لا يعني أن التأقلم سهل. التغيير غالبًا ما يكون مرهقًا ومسببًا للتوتر، لأن الدماغ يفسره أحيانًا على أنه تهديد. في أعماق الدماغ يوجد مركز يسمى النواة المتكئة (Nucleus Accumbens)، وهي المسؤولة عن توزيع هرمون الدوبامين (Dopamine)، المرتبط بالتحفيز والمكافأة في الدماغ، والمعروف بين العوام وفي وسائل الإعلام باسم "هرمون السعادة". إذا فسرت التغيير كخطر (Threat)، يتم ضخ الدوبامين في الجزء الخلفي من النواة المتكئة، مما يحفز الشعور بالخوف والرغبة في الانسحاب. أما إذا رأيت التغيير كفرصة (Opportunity)، فيُضخ الدوبامين لمقدمة النواة المتكئة، مما يشجع على الفضول والانفتاح. للأسف، لا يمكنك التحكم في تدفق الدوبامين بشكل واعٍ، لكن طريقة تعاطيك مع التغيير قد تصنع فرقًا كبيرًا، وهذا ما نناقشه في هذه التدوينة.

الوعي الذاتي كخطوة أولى في مواجهة التغيير

الخطوة الأولى -والأهم- في التعامل مع التغيير هي الوعي. اسأل نفسك: "كيف أشعر حيال هذا التغيير؟". هذا النوع من التأمل الذاتي يُفعل قشرة الدماغ الأمامية (Prefrontal Cortex)، وهي المسؤولة عن التفكير العقلاني، مما يساعدك على رؤية التغيير والتعامل معه بعقلانية وموضوعية، بدلاً من ردود الفعل التلقائية والوقوع في حلقة لامتناهية من التفكير السلبي الذي يقوده الخوف والشك. أنت بهذا تتخذ نهجًا استباقيًا حيال ردة فعل دماغك للتغيير.

الثوابت تمنحك الاستقرار، ابحث عنها!

عند حدوث التغيير، تميل عقولنا للتركيز على ما هو جديد—مما يثير القلق. لكن الحقيقة أنه من المستحيل أن يتغير كل شيء دفعة واحدة. ما يجب عليك فعله هو أخذ خطوة للوراء وتقييم ما بقي على حاله، أي الثوابت. فعندما تتأمل في الصورة الكبيرة، ستتيقن أنه حتى بعد حدوث التغيير، لازالت الكثير من الأمور على حالها، وستحس أن الفجوة بين "الوضع القديم" و "الوضع الجديد" هي أصغر مما توقعت، مما يقلل بدوره الشعور بالقلق ويفتح لك الباب للتفكير بطريقة أكثر موضوعية في المعرفة والمهارات التي تمتلكها والتي يمكنك الاستفادة منها في الوضع الجديد، وكذلك التأمل في مواقف سابقة تمكنت فيها من التأقلم وما ساعدك حينها، وإمكانية استخدام نفس الأدوات والموارد في الوضع الجديد.

كمثال، يُعد ظهور الذكاء الاصطناعي، خاصة بعد إطلاق منصة ChatGPT من قبل شركة OpenAI  في 2022، أحد أكبر التغييرات التي شهدها التاريخ الحديث، وأحد أبرز مُسرّعات التحول في المجتمع وسوق العمل. وقد أثار هذا التغيير بالنسبة لكثير من الناس، شعورًا بالقلق وعدم اليقين، كما تصفه أطر VUCA و BANI.

لفهم هذا التغيير والتأقلم معه، ولتطبيق ما ذكرناه أعلاه، من المهم أولًا أن يبدأ كل شخص بالوعي، بأن يسأل نفسه: "كيف أشعر حيال الذكاء الاصطناعي"؟ كما ذكرنا، هذا النوع من التأمل الذاتي يُفعّل التفكير العقلاني مما يجعل الدماغ يستجيب بمزيد من الفضول والانفتاح. واجه نفسك: ما الذي يخيفك منه؟ هل مخاوفك حقيقية؟ ماهي الفرص التي تراها لنفسك في مجالك؟ علي سبيل المثال، من المفيد أن تُدرك أن مجال الذكاء الاصطناعي واسع جدًا، ومن النادر أن يحتاج فرد ما إلى إتقان كل شيء يراه على شبكة LinkedIn أو X، بل يكفي أن يعرف كل شخص دوره، هل هو مستخدم لحلول الـ AI أم صانع لها، ويُقيِّم التغيير الحاصل بناءً على ذلك. معظم الناس ليسوا بحاجة لتعلُّم الـ Machine Learning أو فهم النماذج اللغوية الكبيرة (Large Language Models) لأنهم يستخدمون الذكاء الاصطناعي كأداة، مثلما يستخدمون الهاتف أو الإنترنت. هذا الإدراك يقلل من الشعور بالتشتت أو الضغط، ويُساعدك على رؤية التغيير بشكل أكثر موضوعية وبحجمه الحقيقي. كما أن هناك ثوابتًا لا يزال يمكن الاعتماد عليها وسط هذا التغيير —مثل مهارات التفكير النقدي، الإبداع، الخبرة الإنسانية، وغيرها مما لا يمكن للذكاء الاصطناعي تعلمه، أو على الأقل، ليس بعد!

دعم الدماغ في أوقات التغيير

تشير الدراسات إلى أن الدماغ يستهلك حوالي 20٪ من طاقة الجسم، لذا من الضروري دعمه جسديًا، خصوصًا في أوقات التغيير، من خلال التغذية، الرياضة، والنوم، إليك ببعض النصائح التي وجدتها مفيدة:
  • التغذية: الأكل الصحي لا يقتصر على الحفاظ على اللياقة البدنية فقط، بل يلعب أيضًا دورًا أساسيًا في دعم وظائف الدماغ بشكل مثالي. يستهلك الدماغ حوالي 20% من طاقة الجسم، ويعتمد بشكل كبير على التغذية السليمة. تُظهر الأبحاث بشكل مستمر أن النظام الغذائي المتوازن يعزز صحة الميكروبيوم (Microbiome)، وهو شبكة الكائنات الدقيقة النافعة التي تنظم العديد من وظائف الجسم الحيوية. يساعد الميكروبيوم المزدهر على تحسين القدرة الإدراكية (Cognitive Function)، والحالة العاطفية، وبالتالي الأداء العام. في أوقات التغيير، من المهم بشكل خاص تعديل نظامك الغذائي من خلال تقليل الأطعمة المصنعة، وزيادة تناول الأطعمة المخمرة (Fermented Foods) مثل الزبادي والكيمتشي (Kimchi)، بالإضافة إلى الأطعمة الغنية بالألياف مثل الحبوب الكاملة، والمكسرات، والخضروات. ولحسن الحظ، فإن العديد من الأطعمة اللذيذة مثل الشوكولاتة الداكنة، والتوت، وزيت الزيتون تساهم أيضًا في دعم صحة الميكروبيوم.
  • الرياضة: كان العلماء يعتقدون في السابق أن عدد خلايا الدماغ ثابت ويتناقص مع التقدم في العمر. لكن الأبحاث الحديثة أظهرت أنه من الممكن توليد خلايا دماغية جديدة، خاصة في منطقة الحُصين (Hippocampus)، وهي الجزء المسؤول عن الذاكرة. فالتغيير يدفع إلى التعلُّم، والتعلُّم يساعد على تكوين ذكريات جديدة. في الماضي، حتى فترة الثمانينيات، كان الاعتقاد السائد أن الدماغ يتوقف عن إنتاج خلايا عصبية جديدة بعد مرحلة البلوغ (Adulthood). لكن بحثًا حديثًا صدر في يوليو 2025 عن معهد كارولينسكا كشف أن الدماغ يواصل توليد عصبونات جديدة (Neurons) لدى البالغين حتى سن الثامنة والسبعين، وذلك في منطقة الحُصين، وهي الجزء المسؤول عن الذاكرة، والتعلّم، والمرونة الإدراكية. ومن الطرق الفعّالة لتحسين الذاكرة ممارسة التمارين الهوائية (Aerobic Exercise) بانتظام، حيث إنها تحفّز إنتاج مادة الـ BDNF، اختصار لـ Brain-Derived Neurotrophic Factor، وهو مادة تعمل كسماد لخلايا الدماغ.
  • النوم: النوم الجيد ليلاً يمنحك طاقة أكبر وصفاءً ذهنيًا. لكن ما قد لا تدركه هو مدى أهمية النوم عندما تمر بمرحلة من التغيير – لأن هذا هو الوقت الذي يحدث فيه التعلُّم. فأثناء النوم، ينخرط دماغك في عمليتين أساسيتين تساعدانك على التكيف. في مرحلة النوم العميق، يقوم الدماغ بترسيخ الذكريات الجديدة الناتجة عن تجاربك اليومية، حيث ينقلها من الحُصين (Hippocampus)، الذي يحتفظ بها مؤقتًا، إلى مخازن الذاكرة طويلة الأمد. كما يُنعش الحُصين ليكون مستعدًا لاستيعاب معلومات جديدة في اليوم التالي. إذا فاتك النوم العميق، فقد تجد صعوبة في تذكر ما فعلته في اليوم السابق!

الفضول بدل السيطرة

أخيرًا، حاول أن تتبنى نهج الفضول بدلاً من الرغبة في السيطرة، فمحاولة السيطرة على كل شيء في عالم متغير هو أمر مرهق وغير واقعي. الأفضل هو أن تتبنى الفضول المعرفي (Cognitive Curiosity). اسأل، استكشف، وجرّب، فعندما تواجه التغيير بعقلية المتعلم، تنتقل من موقف رد الفعل إلى موقع القيادة! ومن الطرق العملية لتجسيد هذه العقلية بناء "دماغ خارجي" يساعدك على تنظيم معارفك، أفكارك، وملاحظاتك في بيئة آمنة ومرنة—وقد تناولنا هذا المفهوم في هذه التدوينة عن الدماغ الثاني (Second Brain). هذا الترتيب يتيح للدماغ الأول أن يركّز على ما يُجيده فعلاً: التفكير، التعامل مع التغيير، والتعلُّم، بدلًا من أن يُستهلك في تخزين المعلومات ومحاولة استرجاعها باستمرار.

الخلاصة

التغيير واقع لا مفر منه، والتعامل معه يبدأ بالوعي الذاتي وطرح أسئلة مثل: "كيف أشعر حيال هذا التغيير؟"، مما يساعد على تنشيط التفكير العقلاني وتقليل ردود الفعل التلقائية والسلبية. الدماغ قادر على التأقلم بفضل اللدونة العصبية، لكنه يحتاج إلى دعم في فترات التغيير من خلال التغذية السليمة، وممارسة الرياضة، والنوم الجيد. كما أن التركيز على الثوابت وسط التغيير يمنح شعورًا بالاستقرار ويقلل من القلق. بدلاً من محاولة السيطرة على كل شيء، يُنصح بتبني عقلية الفضول والاستكشاف التي تفتح الأبواب للتعلّم والتطور. وينطبق ذلك على تغيّرات كبرى مثل الذكاء الاصطناعي، الذي يمكن رؤيته كفرصة للتميّز عند إدراك الدور المناسب لكل فرد والتركيز على المهارات التي لا يمكن استبدالها.

Document

جدول المحتويات

    لديك ملاحظات أو تصحيحات حول الموضوع المطروح؟ نرحب بمساهمتك وتقييمك! لا تتردد في التواصل معنا!

    أرسل لنا بريدًا إلكترونيًا

    التدوينات الأكثر قراءة

    طريقة GTD® للإنتاجية بدون توتر

    تذكير بأصول استخدام البريد الإلكتروني

    البريق الزائف للأرقام وتأثيره على نجاح المؤسسات