هل تمضي ساعات طويلة على الإنترنت؟ تتصفّح، تتابع، تقرأ، تشاهد، ثم تُغلق هاتفك دون أن تتذكر شيئًا أو تخرج بفائدة تُذكر؟ إن كان الجواب نعم، فأنت لست وحدك. المشكلة ليست في التصفح بحد ذاته، بل في الكيفية وفي غياب نظام يساعدك على الاستفادة من الموارد التي تمرّ بها. في هذه التدوينة، ستتعرّف على الفرق بين "التصفح التعمدي" و "التصفح العابر"، وسنشارك معك نظامًا بسيطًا وفعّالًا لتحويل وقتك على الإنترنت إلى استثمار حقيقي في معرفتك وتطوّرك.
نستعمل الإنترنت بكثرة، نتصفّح، نقرأ، نتابع، نشاهد، ثم نُغلق التطبيق، أحيانًا نخرج بفائدة، وأحيانًا نخرج بلا أثر يُذكر. هل سبق وسألت نفسك، "هل الوقت الذي أقضيه على الإنترنت هو وقت مفيد لي فعلًا؟".
نوعان من التصفح: التعمدي والعابر
عندما أتأمل في عاداتنا الرقمية، أجد أن تصفّح الإنترنت يحدث غالبًا في حالتين:
- الحالة الأولى: التصفح التعمدي، نكون في هذه الحالة جالسين لتصفح الإنترنت أو القراءة عن قصد، أي متفرغون نوعًا ما لهذه المهمة، ربما في مقهى مع فنجان قهوة، في البيت أو في مقر العمل.
- الحالة الثانية: التصفح العابر. وقد يحدث أثناء انتظار شيئ ما، أو في استراحة العمل، أو في لحظات من الملل، لحظاتٌ نلجأ فيها للهاتف بلا خطة، وننغمس في المحتوى بلا هدف باستثناء "تفويت الوقت".
في كلتا الحالتين، التصفح التعمدي أو العابر، قد نصادف مواردًا مفيدة أو مثيرة للاهتمام: مقالات، ڤيديوهات، صور، تعليقات المستخدمين، نشرات بريدية (newsletters)، إلخ. ماذا يحدث لهذه الموارد؟ أو بالأحرى، ما الذي نفعله حيالها؟ توقف لحظة وفكّر: ماذا تفعل -أنت- عادةً مع هذه الموارد؟
أغلب تصفحنا هذه الأيام يحدث عبر منصات التواصل الاجتماعي، وبحكم طبيعة عمل هذه المنصات القائمة على المحتوى الذي ينشره المستخدمون (User-Generated Content، أو اختصارًا UGC)، فأن المحتوى يتجدد باستمرار وبسرعة، وما كان معروضًا على شاشتك في لحظة ما، قد يختفي بمجرد إنعاش الصفحة أو إغلاق تطبيق التصفح، وقد لا يمكنك العثور عليه مجددًا. هذا قد لا يحدث كثيرًا في المنتديات (Forums) أو في مدونات المواقع (Blogs)، ومع ذلك، تظل احتمالية فقدان المحتوى وعدم القدرة على الرجوع إليه قائمة دائمًا. بعض هذا المحتوى قيِّمٌ جدًا، وضياعه من بين يديك يعتبر خسارة ومضيعة للوقت!
في رأيي الشخصي، الجلسة التي لا تخرج منها بشيء محفوظ هي على الأغلب مجرد تفويت للوقت! طبعًا، هذا لا يعني أن كل لحظاتنا على الإنترنت يجب أن تكون منتِجة أو تعليمية. من حق كل شخص أن يقضي وقتًا للترفيه، يشارك فيه مِيمًا مضحكًا (Meme) أو يشاهد شيئًا خفيفًا. التوازن هو الأساس. ما أطرحه هنا لا ينفي أهمية الراحة أو التسلية، بل يدعو فقط إلى أن نكون أكثر وعيًا بكيفية توزيع وقتنا الرقمي بين المتعة والفائدة.
العقل البشري، مهما كانت قدرته، غير مصمم لتذكّر كل ما يمر علينا عبر الإنترنت، فنحن نستهلك كمًا هائلًا من المعلومات يوميًا، وأغلبها يُنسى خلال ساعات. لذلك، أؤمن أن كل جلسة تصفح أو قراءة—سواء كانت متعمّدة أو عابرة—ينبغي أن تنتهي بحفظ شيء واحد على الأقل في مكان موثوق. وإن لم يحدث ذلك، فغالبًا أنت تتابع محتوى غير مفيد أو "تقتل" بعض الوقت، لا أكثر ...
خزّن المحتوى الآن قبل أن يضيع منك، ثم اقرأه لاحقًا!
على خلاف التصفح التعمدي الذي تكون فيه جاهزًا ومتفرغًا لاستهلاك المحتوى، قد تُصادف في جلسات التصفح العابر محتوى مثيرًا للاهتمام، لكنك ببساطة لا تملك الوقت لقراءته في حينها. الحل بسيط ويكمن في تخزين المحتوى أو حفظه لقراءته في وقت لاحق. ولحسن الحظ، تتوفّر العديد من أدوات حفظ/تخزين المحتوى، وبعضها مجاني:
- ميزات "الحفظ" المدمجة في التطبيقات، مثلًا، إنستقرام (Instagram) ولينكدإن (LinkedIn) فيهما ميزة حفظ المحتوى (Save). تطبيق واتساب (WhatsApp) فيه أيضًا ميزات مشابهة.
- أدوات خارجية، مثل Pocket، والتي تتوفر أيضًا كإضافات (Add-ons) لمتصفحات الإنترنت
- أنا شخصيًا استخدم Zotero و Obsidian (المزيد عن ذلك نظامي الشخصي لاحقًا)
اختيار الأداة هو تفضيل شخصي بالدرجة الأولى؛ المهم أن تختار أداة رقمية تحفظ بها المحتوى، لكي تعود إليه لاحقًا عندما تكون مستعدًا للقراءة.
العودة للمحتوى المخزَّن جزء أساسي من النظام
حفظ أو تخزين المحتوى لا يكفي وليس هو الهدف. كل شخص بإمكانه تخزين المحتوى وتكديسه. الفيصل هو في العودة إليه وقرائته. أنا شخصيًا أخصص وقتًا محددًا كل أسبوع — مساء الخميس — أراجع فيه كل المحتوى التي خزنته خلال الأسبوع. أنا شخصيًا لا أُفضل قراءة المحتوى في أوقات متقطعة، لأن ذلك يشتتني، وقد لا أعطيه حقه من التركيز، لكني دائمًا أرجع إليه لاحقًا. طبعًا "كل شخص ونظامه"، فالبعض يفضلون القراءة كل يوم في الصباح أو ربما في المساء، وذلك يعود للتفضيلات الشخصية. خلاصة الموضوع: يجب أن تعود للمحتوى الذي خزنته لتقرأه، وأفضل طريقة لضمان ذلك هي بتخصيص وقت لذلك.
لا تسقط في فخ الـ Doomscrolling
دعونا نتحدث بصراحة: هناك نوع من التصفح لا يُغني ولا يُسمن من جوع، فهو مجرد انحدار تدريجي نحو دوّامة من الڤيديوهات التافهة والمحتوى العابر.. هذا ما يُعرف بـ doomscrolling أو التصفح المهلِك (التصفح المفرط وغير المفيد للمحتوى العشوائي)، يستهلك وقتك وطاقتك الذهنية. هذا النوع من المحتوى منتشر في منصات مثل تيك توك (TikTok)، وانستقرام (Instagram)، وفيسبوك (Facebook)، ومؤخرًا -للأسف- يوتيوب (YouTube). توجد استثناءات لبعض صناع المحتوى المفيد والنظيف، ولكن للأسف، الأغلب قد أصبحوا ينصاعون للخوارزميات التي تتحكم في عرض المحتوى بناءً على التفاعل وليس القيمة، فأصبحوا يصممون محتواهم لجذب النقرات والتفاعلات، وكل ما يجلب لهم المال!
كيف تتجنب هذا النوع من المحتوي؟
ببساطة: إن لم يكن هدف المحتوى واضحًا لك من البداية — لا تستهلكه، وانسحب فورًا! على سبيل المثال فيما يتعلق بالمحتوى المرئي:
- الڤيديو الجيد يقول لك: "في هذا الڤيديو سأوضح لك كذا وكذا"!
- الڤيديو السيئ يبدأ بـ: "هل تعلم ماذا يحدث لو خلطت هذا مع هذا مع هذا ... ثم أضفت هذا وهذا ..."، ويستمر في الإطالة والمراوغة دون هدف واضح، لأن هدفه ليس إفادتك بل يريدك أن تشاهد لأطول فترة ممكنة. هذا النوع مصمم ليلعب على مراكز المتعة في دماغك، ويمنحك شعورًا زائفًا بالاكتشاف، لكنه في الواقع يمنعك من التفكير بعمق، ويغرقك في دوامة من السطحية، من الأفضل استبداله بممارسات أفضل مثل التعليم المصغر (Microlearning).
للإلهام: نظامي الخاص، بسيط وفعال!
بالنسبة لي، النظام الذي أستخدمه بسيط للغاية، ويتألف من 3 خطوات:
- استكشاف وتخزين المحتوى: عند تصفحي للإنترنت، أضيف كل شيء يثير اهتمامي إلى "قائمة القراءة" (Reading List)، وهي ميزة مدمجة في متصفح الإنترنت ونظام التشغيل الذي استخدمه
- استهلاك المحتوى: مساء كل خميس، أُخصص وقتًا لقراءة كل ما خزنته خلال الأسبوع، في العادة تستغرقني هذه الجلسة حوالي 3 ساعات
- أرشفة أو حذف المحتوى: في نفس الجلسة أعلاه أقوم ببعض التصنيف:
- إذا وجدت أن المحتوى مفيد ويستحق الأرشفة، فإني أنقله إلى نظام الأرشفة الدائم الخاص بي، المعروف بـ "الدماغ الثاني"
- أما إن تبين لي أن المحتوى غير مفيد بعد قرائته، فأحذفه فورًا. وللتوضيح: الأرشفة في نظامي نوعان:
- أرشفة المحتوى بأكمله، أي الاحتفاظ بنسخة كاملة من المحتوى، واستعمل برنامج Obsidian لهذا الغرض
- أرشفة رابط المحتوى فقط (أي الـ Link)، واستعمل برنامج Zotero لهذا الغرض
نظامك الخاص قد يختلف، ولكنه يجب أن يلبي المتطلبات التالية:
- أن يكون الوصول إليه سهلًا وسريعًا حتى تتمكن من تخزين المحتوى بدون احتكاك
- أن يعمل على جميع أجهزتك الإلكترونية التي تستعملها للقراءة
- أن يكون تخزينه سحابيًا حتى لا تفقد المحتوى عند تغيّر أو تلف الأجهزة
الإنترنت أداة قوية، لكن فائدتها تعتمد على طريقة استخدامها. تصفح بوعي، واحفظ ما يفيدك، وارجع إليه بانتظام، لتحوّل وقتك على الإنترنت إلى استثمار حقيقي في معرفتك وتطوّرك.
الخلاصة
نحن نتصفح الإنترنت بطريقتين: تصفح تعمدي يتم بوعي وفي وقت مخصص، وتصفح عابر يحدث غالبًا أثناء لحظات الفراغ أو الملل، وغالبًا ما يكون بلا هدف واضح. في الحالتين، قد نصادف محتوى قيّم، لكنه يُستهلك ثم يُنسى ما لم نقم بحفظه فورًا لقراءته لاحقًا.
هناك العديد من الأدوات التي تسهّل هذه المهمة، مثل ميزات الحفظ المدمجة في التطبيقات (مثل إنستقرام، لينكدإن، واتساب)، إلى جانب أدوات خارجية مثل Pocket وZotero وObsidian، والتي تساعد على تنظيم المحتوى وتخزينه في مكان آمن وسهل الوصول.
لكن الحفظ وحده لا يكفي. المهم هو العودة إلى هذا المحتوى في وقت مخصص ومنظّم، بحيث يكون لديك روتين أسبوعي — حتى لو لبضع ساعات — تراجع فيه ما خزّنته، وتُقيّم إن كان يستحق الأرشفة أو الحذف.
كذلك، من الضروري الحذر من ظاهرة التصفح المهلِك (doomscrolling)، وهي عادة استهلاك متواصل لمحتوى سطحي أو ترفيهي بلا هدف، تستهلك وقتك وطاقتك الذهنية دون فائدة حقيقية. المحتوى الجيد يُفترض أن يكون هدفه واضحًا منذ اللحظة الأولى، لا أن يُخفيه خلف التشويق الزائف.
أما بالنسبة للنظام الذي شاركته في هذه التدوينة، فهو نظامي الشخصي لاستهلاك المحتوى — طوّرته مع مرور الوقت ووجدته فعّالًا في تنظيم استهلاكي للمحتوى الرقمي. لا أدّعي أنه النظام المثالي للجميع، لكنه قد يكون نقطة انطلاق تلهمك لتصميم نظامك الخاص بما يتناسب مع وقتك، وأسلوبك، واهتماماتك.
Document