غالبًا ما نجد أنفسنا اليوم نواجه تدفقًا متواصلًا من المعلومات، ولكن، هل يمكن أن يكون هذا الكم الهائل من المعلومات ضارًا لنا؟ الحقيقة أن غمرَنا المتواصل بالمعلومات قد يصبح سببًا رئيسيًا للكثير من التحديات التي نواجهها، من تدهور قدرتنا على اتخاذ القرارات بشكل فعّال إلى تزايد مستويات التوتر والقلق. إن تأثير الإغراق المعلوماتي يتجاوز مجرد كثرة المعلومات؛ فهو يؤثر في صحتنا العقلية وقدرتنا على التركيز واتخاذ القرارات الحاسمة. ولكن حمدًا لله، هناك طرق فعّالة للتعامل مع هذا التحدي.
ما هو الإغراق المعلوماتي
الإغراق المعلوماتي (Information Overload)، والمعروف أيضًا بأسماء أخرى مثل "فرط المعلومات"، أو "التسمم بالمعلومات"، أو "قلق المعلومات"، هو صعوبة فهم قضية ما أو اتخاذ قرارات فعّالة بشأنها بسبب تعرضنا لكمٍ هائلٍ من المعلومات المتعلقة بهذه القضية.
المصادر الرئيسية للإغراق المعلوماتي
الإغراق المعلوماتي هو تحدٍ شائع في العصر الرقمي، وينشأ بشكل أساسي نتيجة الكميات الهائلة من المعلومات المتاحة عبر قنوات متعددة. تشمل المصادر الرئيسية للإغراق المعلوماتي: البريد الإلكتروني، الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك الاجتماعات سواءً الوِجاهية أو عن بُعد. فيما يلي شرح لكيفية عمل كل من هذه المصادر ودورها في الإغراق المعلوماتي:
[4/1] البريد الإلكتروني
يمنحنا البريد الإلكتروني (E-mail) القدرة على التواصل السريع والواسع النطاق، لكنه في نفس الوقت يتسبب في تراكم كبير في الرسائل (الإيميلات)، حيث يتلقى العديد من المستخدمين مئات الرسائل يوميًا، بما في ذلك مراسلات العمل، والنشرات الإخبارية، والرسائل غير المرغوب فيها (Spam). كل ذلك يؤدي إلى صعوبة ترتيب الأولويات والاستجابة بسرعة، مما يتسبب بدوره في إرهاق إدراكي وصعوبة في معالجة الكم الهائل من المعلومات وإدارتها بفعالية.
[4/2] الإنترنت
يستضيف الإنترنت كميات هائلة من المعلومات، حيث يتم إنتاج أكثر من 1 إكسابايت (1 × 10^18 بايت) من البيانات الفريدة سنويًا، بما في ذلك المقالات، والمقاطع المرئية (الڤيديو)، والأبحاث، وغيرها. وعلى الرغم من قوة ونفع أدوات ومحركات البحث على الإنترنت، إلا أنها تُشكل تحديات أيضًا، فعملية بحث واحدة قد تُنتِج ملايين النتائج، مما يجعل من الصعب على المستخدمين تصفية النتائج وكذلك صعوبة في التمييز بين المصادر الموثوقة وغير الموثوقة. هذا الكم الهائل من المعلومات المتاحة يمكن أن يؤدي إلى شلل التحليل (Analysis Paralysis)، حيث يشعر الأفراد بعدم القدرة على اتخاذ القرارات خوفًا من تفويت خيارات أو نتائج أخرى أفضل.
[4/3] وسائل التواصل الاجتماعي
تدفع منصات التواصل الاجتماعي (Social Media) تحديثات في الوقت الفعلي (Realtime) من الأصدقاء، والعائلة، والعلامات التجارية، ووسائل الإعلام، وغيرها، حيث يتعرض المستخدمون لسيل من الإشعارات والمنشورات والإعلانات على مدار اليوم. تشمل وسائل التواصل الاجتماعي مجموعة واسعة من أنواع المحتوى (صور، مقاطع مرئية، مقالات، إلخ)، مما يزيد من صعوبة التركيز على معلومات محددة. من ناحية أخرى، السرعة التي يتم بها مشاركة المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤدي إلى شعور بالإرهاق، وزيادة في القلق، وتقليل فترات الانتباه (Attention Span).
[4/4] الاجتماعات
تعتبر الاجتماعات (Meetings)، والتي تشكل جزءًا أساسيًا من التواصل في مكان العمل، مصدرًا رئيسيًا للإغراق المعلوماتي بسبب تكرارها، أو تعقيد محتواها، أو عدم كفاءتها:
- أولاً: العدد الكبير للحضور والمدة الطويلة للاجتماعات، خاصة في بيئات العمل عن بُعد (Remote Work)، يمكن أن يؤدي إلى شعور كبير بالإرهاق، حيث يواجه العديد من الأفراد صعوبة في التكيف مع الاجتماعات المتتالية في يوم واحد، فكل اجتماع يكون مليئًا بالمناقشات، والنقاط الإجرائية، والمتابعات، والقرارات، إلخ. هذا التدفق المستمر للمعلومات يترك القليل من الوقت للتفكير، مما يزيد من حدة الإغراق المعلوماتي.
- ثانيًا، غالبًا ما تتناول الاجتماعات موضوعات معقدة تتطلب من المشاركين امتصاص واحتفاظ كميات كبيرة من المعلومات بسرعة. يمكن أن يؤدي العبء الإدراكي الناتج عن تقديم هذه المعلومات بسرعة إلى إجهاد الموارد العقلية، مما يجعل من الصعب على الحاضرين استيعاب التفاصيل واتخاذ الإجراءات اللازمة بفعالية.
- أخيرًا، يفاقم التنسيق الضعيف للاجتماعات المشكلة، حيث أن الاجتماعات التي تفتقر إلى أجندات واضحة أو هيكل تنظيمي تتحول في كثير من الأحيان إلى مناقشات مكررة ومواضيع متداخلة. نقص التركيز يهدر الوقت الثمين ويترك الحاضرين في حالة من الارتباك، محمَّلين بكميات من المعلومات غير المنظمة.
عواقب الإغراق المعلوماتي
يمكن أن يؤثر الإغراق المعلوماتي بشكل كبير على عمليات اتخاذ القرار ويساهم في زيادة التوتر والقلق. وفيما يلي توضيح لكيفية ظهور هذه التأثيرات:
[5/1] انخفاض القدرة الإدراكية: عندما يتعرض الأفراد لكمية مفرطة من المعلومات، تصبح قدراتهم الإدراكية مرهَقة ويواجهون صعوبة في التمييز بين المعلومات ذات الصلة وغير ذات الصلة. يؤدي ذلك بدوره إلى صعوبة في معالجة وتحليل المعلومات بشكل فعّال.
[5/2] شلل التحليل: غالبًا ما يؤدي الإغراق المعلوماتي إلى الوقوع في شلل التحليل (Analysis Paralysis)، حيث يشعر الأفراد بالإرهاق نتيجة الكم الكبير من المعلومات المتاحة، فيعجزون عن اتخاذ أي قرار.
[5/3] انخفاض جودة القرارات: مع تمدد الموارد الإدراكية إلى حدودها القصوى، تنخفض جودة القرارات، وقد يلجأ الأفراد إلى اتخاذ قرارات متسرعة أو غير مدروسة بسبب الكمية المهولة التي يواجهونها من المعلومات، أو قد يقعون - بشكل لا واعي - ضحية للمبسطات الذهنية المعروفة بـ التحيزات الإدراكية.
[5/4] التأثير السلبي على الإنتاجية: لا يؤثر الإغراق المعلوماتي على اتخاذ القرارات فحسب، بل يمتد تأثيره ليشمل الإنتاجية العامة. فالوقت المستغرق في جمع وتقييم المعلومات الزائدة يمكن أن يحد من العمل الهادف، مما يؤدي إلى التسويف أو عدم الإنجاز، ويزيد من مستويات التوتر مع اقتراب تواريخ تسليم العمل (Due Dates).
[5/5] زيادة مستويات التوتر والقلق: يمكن أن يؤدي التدفق المستمر للمعلومات إلى مستويات متزايدة من التوتر والقلق، وقد يساهم في الاحتراق الوظيفي (Occupational Burnout).
التعامل مع الإغراق المعلوماتي
[4/1] الوعي الذاتي
الخطوة الأولى - والأهم - هي التعرف على علامات الإغراق المعلوماتي. تعلم كيفية ملاحظة العلامات الجسدية والعاطفية، مثل الإحباط، وربما الصداع، بالإضافة إلى شلل التحليل (Analysis Paralysis) والعجز عن اتخاذ القرارات بسبب الكم الهائل من المعلومات. عند ملاحظة هذه العلامات، حاول اتباع الخطوات الاستباقية التالية:[4/2] تقليل كمية المعلومات المستقبَلة
ألغِ اشتراكك من الرسائل والنشرات الإخبارية غير الضرورية. وضعُ حدود لكمية البريد الإلكتروني التي تتلقاها يوميًا سيقلل بشكل كبير من حدوث الإغراق المعلوماتي. نصيحة احترافية: أنا أستخدم تطبيق
TempBox (مجاني) عندما أحتاج إلى تقديم عنوان بريد إلكتروني لتنزيل ورقة علمية أو تقرير، ثم أحذف ذلك العنوان البريدي بالكامل. في الواقع، أنا لا أقدم بريدي الشخصي أو المهني إلا في الضرورة لأن بعض الجهات قد تشارك أو تبيع البريد الإلكتروني لجهة أخرى حتى بعد إلغاء الاشتراك.
بالإضافة إلى ذلك، حُد من استهلاكك لوسائل التواصل الاجتماعي وقلل من الإشعارات (Notifications). افتح إعدادات التطبيقات أو الجهاز الذي تستعمله وضع حدودًا زمنية لاستهلاك محتوى التواصل الاجتماعي، واضبط الإشعارات حسب تفضيلاتك، أي ابقِ فقط على الإشعارات الضرورية مثل تطبيقات الصيرفة المتنقلة (Mobile Banking) أو تطبيقات الأعمال مثل WhatsApp. يمكنك أيضًا تفعيل ميزة الإشعارات المجدولة لتلقي ملخص التنبيهات مرة أو مرتين في اليوم فقط.
من ناحية أخرى، شارك فقط في الاجتماعات التي تتطلب وجودك والتي تكون أجندتها واضحة والتوقعات منها محددة، فالاجتماعات تعتبر من أكبر مصادر الإغراق المعلوماتي، لذا يجب أن نكون انتقائيين في اختيار الاجتماعات التي نشارك فيها، وأن نكون حازمين في حماية وقتنا، وعدم قبول دعوات الاجتماعات غير الضرورية.
إن كنت لا ترى ضرورة حضور اجتماع ما، حاول رفض الدعوة بلطف مع شرح السبب. إليك مثالًا حقيقيًا على ذلك: "مرحبًا! شكرًا لدعوتك لي لاجتماع يوم الثلاثاء. أعتذر عن الحضور لأنني لست عضوًا في هذا المبادرة في الوقت الحالي، لكنني دائمًا مستعد لدعم الفريق. سأكون في مقر الشركة في ذلك اليوم إن كنت ترغب في النقاش أكثر".
يجب عليك أيضًا أن تحدد أن تأخذ فترات استراحة بشكل منتظم لكي تتجنب التعرض المكثف للمعلومات في نفس الجلسة. ذلك سيساعد إيضًا في تجديد الذهن وتحسين التركيز عند العودة.
[4/3] ممارسة الاستهلاك الانتقائي (Selective Consumption)
قيّم مصداقية وأهمية المصادر قبل استثمار الوقت فيها. ركز على المصادر الموثوقة التي تقدم محتوى عالي الجودة بدلاً من استهلاك كل شيء دون تمييز. على سبيل المثال:- أنا أُعطي الأولوية للمجلات العلمية والمقالات التي تمت مراجعتها من قبل الخبراء على المقالات المنشورة في مواقع أخرى أقل جودة (مثل Quora أو Medium)
- كما أفضّل المنتديات التي تتم مراقبتها وإدارتها مثل Reddit و Stack Exchange على منصات التواصل الاجتماعي مثل LinkedIn أو X (تويتر سابقًا).
- أختار النشرات الإخبارية من مصادر تنقِح المحتوى مثل SmartBrief (مجاني)، وMorning Brew (مجاني)، و Owler (مجاني لمتابعة 5 مصادر فقط)، و Ground News (مجاني) على النشرات الإخبارية من مؤسسات تجارية أو مؤثرين (Influencers) يسعون دائمًا للترويج لأجنداتهم أو منتجاتهم.
[4/4] تنظيم المعلومات
أحيانًا قد لا تكون المشكلة في كمية المعلومات بل في عدم تنظيمها بطريقة سهلة الفهم والمعالجة.
- استخدِم أدوات إدارة المهام والمشاريع لمتابعة المهام ومواعيد التسليم
- كذلك، يمكن أن تساعد برامج إدارة المعرفة الشخصية مثل Obsidian (مجاني) أو Roam Research (مدفوع) على تنظيم المعلومات بكفاءة، مما يسهل الوصول إلى البيانات ذات الصلة عند الحاجة.
- بينما يمكن أن يساعد برنامج مثل Kumu (مجاني) في فهم الأنظمة والمعلومات المعقدة مثل العلاقة بين المسببات والنتائج، فهم تأثير المعنيين بالمشروع، وغيرها.
بالإضافة إلى ذلك، توفر معظم الأدوات الرقمية ميزات مثل التصنيفات (Categories) والعلامات (Tags) لتصنيف المعلومات التي تستقبلها عبر البريد الإلكتروني مثلًا.
مشاكل العصر الرقمي تتطلب حلولًا رقمية. لست مضطرًا لاستخدام كل الأدوات المذكورة أعلاه؛ تلك مجرد قائمة ببعض الأدوات التي استعملها شخصيًا، ولك الحرية في اختيار ما يناسبك منها.
الإغراق المعلوماتي ومؤشر MBTI
يختلف التعامل مع الإغراق المعلوماتي بشكل كبير بين الشخصيات المختلفة في مؤشر مايرز-بريغز لأنماط الشخصية (بالإنجليزية Myers–Briggs Type Indicator، أو اختصارًا MBTI). فوفقًا لمصادر متعددة، تتميز أنماط الشخصية من فئة NT بقدرتها العالية على التعامل مع الإغراق المعلوماتي بفضل طبيعتها المنطقية والتنظيمية. كما أن الأنماط من فئة SJ تؤدي أداءً جيدًا بفضل نهجها المهيكل والمنظم. في المقابل، قد تجد الأنماط من فئة NF صعوبة أكبر في التعامل مع وفرة وتعقيد المعلومات.
وبناءً على تحليل الأنماط المختلفة وتوجهاتها في التعامل مع الإغراق المعلوماتي، يظهر نمط الشخصية INTJ كالأكثر كفاءة في إدارة كميات كبيرة من المعلومات. بينما تظهر أنماط أخرى مثل ENTJ وINTP قدرات قوية في هذا المجال أيضًا، إلا أن الجمع بين التفكير الاستراتيجي، المهارات التنظيمية، الاستقلالية، وقدرات حل المشكلات يجعل من INTJ أفضل نمط MBTI لإدارة الإغراق المعلوماتي بفعالية.
يمكنك الاستفادة من هذه الرؤى عند تشكيل فرق العمل واختيار قادة المؤسسة، بحيث تضمن تضمين أنماط الشخصية من فئة NT في المناصب القيادية ودوائر اتخاذ القرارات. يمكن التعرف على الأشخاص الذين يندرجون تحت هذه الأنماط من خلال إجراء
اختبار MBTI مجاني عبر الإنترنت، والذي موثوقيته ضعيفة ويعطي فكرة سطحية فقط عن الشخص أو، لضمان دقة النتائج وموثوقيتها، أنصح بالاستثمار في التقييم المدفوع، خصوصًا إن كنت بصدد اختيار مرشحين للمناصب العليا أو للمستويات التنفيذية في المؤسسة.
الذكاء الاصطناعي والإغراق المعلوماتي
يوفر الذكاء الاصطناعي (AI) حلولًا مبتكرة تساعد الأفراد والمؤسسات على إدارة الإغراق المعلوماتي بفعالية، حيث يلعب الذكاء الاصطناعي دور الحليف القوي في مواجهة هذا التحدي من خلال تلخيص المحتوى في البريد الإلكتروني ومواقع الإنترنت، تحسين تنظيم المحتوى، تعزيز قدرات محركات البحث، وتبسيط تحليل المعلومات بصفة عامة. ومع استمرار المؤسسات في التنقل بين تعقيدات المعلومات الرقمية، ستكون الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي أمرًا ضروريًا لخلق بيئة عمل منتجة. هذا موضوع واسع ويستحق الاهتمام، وقد يستدعي مقالًا خاصًا به في المستقبل.
الخلاصة
الإغراق المعلوماتي هو حالة من الصعوبة في معالجة كمية كبيرة من المعلومات بسبب التعرض المفرط لها، مما يؤثر في اتخاذ القرارات والتفكير السليم. في العصر الرقمي، تتسبب قنوات مثل البريد الإلكتروني، الإنترنت، وسائل التواصل الاجتماعي، والاجتماعات في زيادة هذا الإغراق، مما يؤدي إلى شعور بالإرهاق الذهني والقلق. التأثيرات تشمل انخفاض القدرة على التركيز، شلل التحليل، اتخاذ قرارات ضعيفة، والتأثير على الإنتاجية.
لمواجهة هذا التحدي، يُنصح بعدة استراتيجيات مثل تحديد مصادر المعلومات المهمة، الحد من الإشعارات، وتقليل الوقت الذي يُقضى في استهلاك المحتوى غير الضروري. كما يجب ممارسة الاستهلاك الانتقائي للمعلومات وتنظيمها باستخدام أدوات إدارة المهام، والمشاريع، والمعلومات.
Document